يومًا ما … «إعادة نشر»

قيل لي يوما ما أني موهوبة ومتمكنة من مفردات اللغة العربية، فرحت يومها كثيرا بل أكاد أجزم أني رقصت من الفرح؛ فكم هي محبوبة الكتابة إلى قلبي. رفيقة دربي هي، والوحيدة القادرة على منحي ما يطرب القلب ويسعد الروح. قصتي معها بدأت منذ الصغر في عمر العاشرة تقريبا….

كنت أحب مشاهدة افلام الكارتون على قناتي المحببة سبيستون، وخاصة سندريلا. فما أن أمسك قلمي بأناملي الصغيرة أعيد صياغة ما شاهدته من جديد. كنت أفعل هذا لأحصل على نهاية لكل تلك القصص؛ حيث أن الحلقات النهائية كانت بعيدة جدًا، وللأسف لم أكن أستطيع مشاهدتها على الدوام؛ لأن التلفاز يغلق في شهور الدراسة.

يوما عن يوم زادت كتاباتي، تطورت، صارت تعبر أكثر وأكثر عن أحزاني، مخاوفي، أحلامي، عالمي الوردي الذي بنيته رغم كل الصعاب والمعوقات. لتصير الكتابة متنفسي الوحيد، المكان الذي أخرج فيه صراعاتي، أحقق من خلاله توازني النفسي لأستطيع الاستمرار في دنياي البائسة تلك. ولكن دوام الحال من المحال، هكذا أخبرونا دوما ..

اكتشف والدي يوما فعلتي تلك، ولم يحب ما كتبت. بل لم يحب تلك العادة من الأساس، ومن هنا بدأت الحرب الضروس بيننا، أنا أكتب وهو يقرأ بسخرية وامتهان أمام إخوتي ليؤنبني ثم يقطع ويلقى بوريقاتي في أقرب سلة مهملات. مئات الورق، عشرات المذكرات، آلاف الكلمات ألقيت كأي ورقة جوفاء حقيرة لا أصل لها ولا نسب. قطع من روحي انتزعت مني قسرًا وألقيت بلا رحمة أو إشفاق. سنوات طويلة حاربت فيها بكل ما أوتيت من القوة، ولكن مهما بالغت في إخفاء أوراقي كان الهلاك مصيرها الحتمي.

وأخيراً استسلمت، تركت، فزادت أحزاني، وتضخم غضبي فما عدت أقدر على كبح زمامه وحبسه بداخلي. ماتت روحي أو دعنا نقل أصابتها غيبوبة لا علاج لها، وصرت أحيا بلا هدف، بلا روح، بلا حياة أو متنفس ولو صغير. حتى جاء فارسي النبيل، فأعاد إلي بكلماته العذبة عالمي الصغير. مازال صدى كلماته في أذنيّ يطالبني بإعادة روحي للحياة من جديد فلربما سكنت نفسي وتمكن الهدوء منها. وهكذا بدأت الرحلة مرة أخرى، ست سنوات بالتحديد رافقتني الكلمات فيها بلا انقطاع، فكان القلم خير صديق والورق خير مستمع، ما إن أقرر الحكي حتى يخضعا لي إلى أن أفرغ ما عندي وتهدأ روحي. كلما حزنت، بكيت، غضبت، يئست، مللت، رغبت، كنت أكتب.

لم أفشل قط في ذلك إلا عندما تعتريني فرحة ما، حينها فقط كنت لا أجد ما أكتبه، ربما أنا من أولئك الذين تلهمهم الأحزان والمشاعر السلبية فقط. ولكن يبدو أن روحي اعتادت الحزن فما عادت قادرة على وصفه. نعم اليوم فقدت مهارتي الوحيدة، فما عدت قادرة على وصف ما يعتريني من متناقضات. اليوم أستسلم من جديد وأتخلى عن حلمي الوحيد في أن أصير كاتبة تقرأ أعمالها وتقتبس جملها. اليوم افترقت عن صديقيَّ الورق والقلم، ولا أظن أنه سيجمع بيننا لقاء آخر. حزينة أنا ولكن ما باليد حيلة، لقد سعيت مطولًا إلى الحفاظ عليهما، ولكن عقلي لا يسعفني، وكلماتي فقيرة لا تصف أيا مما يختلجني … سأدفن كل ما أعيشه بداخلي، وليعني الإله وليمنحني طاقة أتحمل بها عالمًا بائسًا لا سبيل لإكسابه لونًا ورديًا سعيدًا ..

بقملي في تاريخ: 29 أبريل 2019م

اقتباس

الحب مرة

يقولون بأن الحب يأتي في العمر مرة … مرة واحدة لا غير، وعلى رأي المصريين (يا تصيب يا تخيب).

أفكر دائمًا وأقول وإن خابت هذه المرة ماذا يفعل المرء حينها؟ هل يقنع بحب فاشل ويتسمر فيه إلى ما لا نهاية؛ فقط لظنه بأنه كان الحب الحقيقي الذي لن يقابله من جديد. أم يهرب بحثًا عن فرصة أخرى لعل وعسى يحالفه الحظ ويقابل حبًا آخر أكثر صدقًا ربما ونجاحًا من الأول. ولكن كيف السبيل إلى نسيان القصة الأولى من الأساس حتى يبدأ بغيرها! كم أن الحب مرهق، ومحير، ومؤلم بما يفوق الوصف.

أحيانًا أغبط أولئك القادرين على المواصلة في علاقات بلا حب، دون تأثر ربما أو اكتراث. وأحيانًا أخرى تأتيني أفكار على شاكلة تكذيب هذا الشعور من الأساس، واعتباره مجرد وهم نسجته عقولنا لا غير.

يومًا ما كنت أردد على مسامع نفسي ومسامع الآخرين مقولة كتبتها بذاتي تقول (الحب كذبة اخترعنها لنبرر استمرارنا مع أشخاص يفطرون قلوبنا لحظة بلحظة). وعلى كثرة ترديدي لها لم أقنع بها بعد، وإن أتت أفعالي على عكس هذا …

أين حقي

الكل يطالبني بحقه عندى ، أما حقوقي أنا فأشك أنها تشغل تفكيرهم ولو لسويعات حتى.

ابني يقف في منتصف الغرفة يصرخ بكل ما أوتي من قوة «أريد حقي في الحاسوب، فلقد جلست عليه أختي أكثر من ربع ساعة». لتردد هي من بعده بصراخ أشبه بصراخه «إنه كاذب مازال لدي عشر دقائق من وقتى الأصلي» . أقف بينهما حائرة أفتش في عقلي عن حل من حلول التربية الإيجابية التي درست عنها عشرات الدورات التعليمية، ولكن عقلي لايسعفني، لأجدني أنسحب بهدوء من وسط المعركة خائبة الآمال إلى مطبخي؛ لأكمل غسيل أطنان من الأطباق والأكواب وأحاول سريعًا إنهاء الطهو قبل وصول زوجي من العمل. بقي له أقل من ساعة ليصل. كم اكره غسيل الصحون ، كم أكره الطهو ، كم كره أعمال المنزل التى لا تنتهي حتى آخر دقائق اليوم .

أنهيت أعمال المطبخ لأخرج سريعًا حتى أبدل ثيابي وأحسن من رائحتي، ولكن أوقفني مشهد البيت وقد قلب رأسًا على عقب بفضل ولديَّ. نسيت ما كنت ذاهبة لفعله وانشغلت بترتيب غرف المنزل كلها ليدخل عليا زوجي وأنا في قمة انهماكي وتعبي فيرمقني بنظرة حزن واشمئزاز، ثم يدخل لتبديل ثيابه.

في آخر النهار وقف مثل وقفة ولديه بأوله يصرخ في وجهي هو الآخر يسألني عن حقه في رؤية زوجة جميلة تضع أحمرًا وأخضرًا، وتفوح منها رائحة مسك وعنبر. ترتدي ما يكشف أكثر مما يستر أو حتى يبرز مفاتنها، يشير إلى جسدي ويسألني «ما هذا؟ أين معالم جسدك؟ لقد غطته الدهون حتى أصبحتي ككرة زبدة بلا ريب. أمتأكدة أنتي أنك بالثلاثين من العمر !».

أفرغ ما بقلبه ثم دخل للنوم ولم يسألني حتى «كيف كان حالك طول اليوم؟ ، أأرهقتي بسبب الأطفال؟ لاتحزني أعلم أنك تتعبين من أجلنا كثيرا حفظك الله لنا».

جلست على الأريكة متسائلة أين حقوقي أنا؟ بل أين سعادتي؟ لما لا يهديني وردة حتى!! ، لما لا يأخذني في نزهة بدون الأطفال مرة!! لقد كان أقصي حلم لي في يوم من الأيام أن أسافر أسبوعًا بعد الزفاف لمكان لم أزره قط، وحرمني منه لأسباب تافهة لا أتذكرها حتى من فرط تفاهتها ، أول مرة سافرنا لقضاء إجازة مصيف كان معي ولدى الأول وعمره ٩ أشهر !! وقضينا يومًا واحدا فقط، لم أسافر معه قط قبل هذا اليوم. لما لا يهديني شيئًا، لقد مرت سنين طوال على آخر هدية أحضرها لها، لقد أحضر لي في كل هذه السنوات مرة واحدة باقة من الأزهار، ولم يكن حتى هو صاحب فكرة شرائها!! إن كل أحلامي تافهة، أحلم بنزهة بدون أبناء، أو هدية تافهة القيمة، أو رسالة غرام صغيرة يرسلها لي في وسط النهار، أو حتى كلمة أحبك آخر النهار، أمور تافهات ولكنها كفيلة بإسعادي لسنين طوال. أليست تلك حقوق لي؟ أليس من حقي أن يكون لي وقت لنفسي أفعل فيه ما يحلو لي؟ أليس من حقي أن يصبح لي صديقات أتنزه معهن؟ أليس من حقي أي شيء؟ لما الكل لهم حقوق وأنا لا، أين سعادتي! أين حياتي! بل أين روحي! لقد ضاعت كلها وما عاد أحد يتذكرها حتى!!

طفلة

أكثر ما كانت تمقته تلك الصغيرة هو العودة لذاك المكان المدعو بيت؛ فهو لم يكن في الحقيقة بيتًا، بل كان سجنًا مشددًا لها، ولذا فهي تحب أن تسلك أكثر الطرق طولًا عند عودتها من المدرسة؛ لتستمتع بقدر أكبر من الحرية. وحيدة ولكن لا ضير، فهي لم تكون من الأساس تتأقلم مع البشر، هي أكثر راحة وسعادة هكذا. ظلت الفتاة التي لم تتخط الثامنة من العمر تفعل ذلك كل يوم ، إلى أن أتت تلك اللحظة المرعبة، والتي حرمتها من سعادتها هذه.

كانت الفتاة تسير في الشارع وحيدة، تنقل بصرها من هنا لهناك، تتأمل البيوت، تستمع إلى أصوات سُكانِها، ليمنحها كل صوت نبذة عن طبيعة صاحبه، مع محاولة منها لتخيل ملامحه بناءً على نبرة صوته. كان الشارع فارغًا تمامًا من البشر، وكم كان هذا يريحها أكثر؛ فهي تنزعج وتتوتر حينما تتلصص نظرات الناس عليها، أو يراقبونها بخبث، وربما يتهامسون فيما بينهم عنها، فيسخرون من مشيتها السريعة العبثية، أو نظارتها القبيحة، أو ربما شيء آخر لا تعرفه.

استمرت الفتاة تسير في طريقها بهدوء وبطء شديدين حتى ظهر أمامها شخص طويل يسير هو الآخر ببطء أكثر من بطئها. خمنت صغيرتنا أنه صبي في عمر الخامسة عشر أو أقل قليلًا، لم تتبين ملامحه من ظهره، ولكنها شعرت رغمًا عنها بالخوف منه، ولذا حاولت أن تسير بصمت تام دون إصدار أي صوت يجعله ينتبه إلى وجودها، ولكن يا للأسف، لقد ضغطت بقدمها دون قصد منها على ورقة ملقاة بإهمال لتصدر صوتًا خفيفًا دغدغ أذني الفتى. التفت الصبي للفتاة ليتضح لها أنه مصاب بتلك الحالة المسماة داون. كان الصبي منزعجًا بشدة وغاضب، وهي لا تدري حقًا سبب ذلك الغضب. اقترب الصبي منها رويدًا رويدًا فمدت إليه يدها بزحاجتها البلاستيكية لعلها تنال إعجباه فيأخذها ويرحل في سلام. أخذها الصبي بالفعل، ولكنه ألقاها بعيدًا، ثم ظل يقترب منها أكثر وأكثر حتى اصطدمت بحائط ليصبح الصبي من أمامها والحائط من ظهرها فلا تجد أي مفر، كانت تحاول أن تنطق بأية كلمة، أن تصرخ حتى، ولكنها حقًا أصيبت بعدم القدرة على النطق بشيء، حتى البكاء لم تتمكن منه الحصول عليه، هي فقط كانت ترتجف بشدة من الرعب.

وضع الصبي يده على عنق الفتاة وبدأ يخنقها ببطء شديد، ليزداد رعبها أكثر وأكثر، وعلى الرغم من هذا لم تستطع فعل أي شيء، شلت يداها فلم تقدر على دفعه . وثقل لسانها فلم تتمكن من قول كلمة واحدة، حتى صوتها بح لتفقد بهذا القدرة على الصراخ أيضًا. شعرت الفتاة بأنها النهاية، ولكن القدر كان له رأي آخر، ففي لحظة تراجيدية مفاجئة وببطء شديد ظهر من بعيد جدًا سيدتين وطفل صغير، لتشاهدا المشهد المرعب فتصرخ إحداهن في الصبي، والذي ارتعب بدوره من فوره، فترك الفتاة وشأنها، ويصير فجأة وديعًا، حتى أنه أمسك بزجاجتها وأعادها إليها ثم رحل وكأن شيئًا لم يكن، بينما اقتربت السيدتين من الفتاة لتسألها إحداهن إن كانت بخير، فأومأت الصغيرة برأسها أي نعم. ثم سارت بجانبهن حتى وصلت إلي ذاك السجن المدعو بيتها.

الغريب في هذه الفتاة حقًا أنها صعدت للمنزل بهدوء مرتسم على ملامحها ويكأن شيئًا لم يكن، بل والأعجب من هذا أنها لم تخبر أيًا من عائلتها أو أي إنسان على وجه البسيطة بما وقع لها. لتتابع حياتها بشكل طبيعي تمامًا دون اختلاف سوى أنها هجرت عادتها السعيدة وفقط.